بعد عشرين عاماً على ثورة يوليو يقدم لنا الأستاذ الحكيم كتابه هذا عن ثورة يوليو تحت عنوان عودة الوعى وكما يقولون يعرف الجواب من عنوانه ، فهو يكفى أن تصلك رسالة الكتاب عن شعب يوليو الذى كان مغيباً تحت مسميات عدة ما بين الإشتراكية و العدالة الإجتماعية و القومية و غيرها من المسميات التى تدغدغ مشاعر الجماهير .
يتحدث الحكيم ، ذلك الذى كان وقتها مديراً لدار الكتب المصرية ، عن يوم الأربعاء الثالث و العشرين من يوليو 1952 و عن ماعرف بحركة الضباط الأحرار وقتها و التى أجبرت فاروق على التنازل عن عرشه لولى عهده الطفل ذى الشهور الستة أحمد فؤاد الثانى وكيف كانت الناس متحمسة جداً لهذا العمل الرائع من الجيش المصرى وقتها الذى استطاع أن يقف فى وجه الملك ذلك الشخص المكروه من الجميع بأخلاقه القذره و جسده المترهل ، هكذا قال .
لكن الحكيم يضع بين ايدينا الكثير من الأسئلة الحائرة و المحيرة أيضاً عن هذه المجموعة من ضباط الجيش فهل كانوا يريدون التخلص من محمد نجيب حقاً أم ذلك كان رد فعل منهم بعدما نصحه بعض لواءات الجيش بضرورة التخلص من هؤلاء الشبان المهووسين ؟! وهل حقاً هم من عرقل الوحدة مع السودان حتى لا يستتب الأمر لنجيب الذى كان محبوباً من السودانيين لأن أمه سودانية الأصل ؟! وهل كانوا يريدون حكم مصر أم أن الظروف و التطاحن الحزبى الذى كان فى أوج درجات الحقارة و الإبتذال الأخلاقى هو الذى دفعهم إلى تجنيب الصراعات الحزبية حتى لا تؤثر على حركتهم الناشئة ؟!
لقد كانت حركة حولها سليمان حافظ إلى ثورة تجب ما قبلها من دستور حتى لا يضطروا إجراء إنتخابات ستأتى حتماً بأغلبية وفدية لا يضمنوا ان تظل على عهد الولاء لهم، هكذا زين لهم سليمان حافظ سوء فعلتهم وخطيئتهم فى حق الدستور وفتها ، فما كان منهم إلا أن استجابوا لهذا الرأى وأصبح من حق التى كانت حركة مباركة أن تسمى نفسها ثورة وأن يكون لها مجلس قيادة ثورة و أن تصدر ما يحلوا لها من قوانين و مراسيم فى غرفها المغلقة دون أن يناقشها أحد ، ورغم أن بعض فقهاء الدستور رفضوا وصفها بالثورة إلا أن أصحاب الرأى الأول هم من لقوا الحظوة و التقرب عند حكام البلاد الجدد !
ويتساءل الحكيم أين كنا من كل هذا العبث بالدستور وبالديموقراطية ؟ لكنه يجيب على نفسه إجابة " مبررايتة " فيقول وهل كان الدستور يحترم قبل يوليو ؟! و هل كان إعتلاء الملك للعرش أصلاً دستوريأ ؟! فقد كانت الحياة الديموقراطية قد أُفسدت إفساداً جعل منها مطية للمنتفعين و المستوزرين فلا يبالون بدستور ولا يحترمون رأى الشعب وحتى مستشارى الملك الذين أقنعوه أنه فوق الدستور بل و وفوق الشعب نفسه ، كل هذا جعل الناس و كان أستاذنا الحكبم منهم يرون أن وطأة ضياع الدستور تهون كثيراً أمام الخلاص من مثل هذا الملك و مثل حاشيته و حتى الصراع الحزبى البغيض الذى ساد فى مصر وقتها ، إنها مبادئ بلا أشخاص يطبقونها فالمبادئ لابد من تجسيد حقيقى لها على أرض الواقع وإلا فلا يريكم الله مكروها فى مبدأ عزيز لديكم .
ويورد الحكيم حواراً كان بينه و بين السنهورى عن تحديد الملكية الزراعية فيقول السنهورى إن أمامهم إقتراحين بتحديد الملكية بـ500 فدان أو بـ 200 فدان ، فما كان من الحكيم إلا أن سارعه بالرد " مائتين ، مائتين ، إجعلوها مائتين " ويقول عن ذلك إن الناس كان من كثرة حنقها و تململها من التردد و الظلم الحادث قبل الثورة كانت متحسمة إلى درجة التطرف فى هذا الأمر ، لعل ذلك الأمر أيضاً جعل الناس تسير على غير وعى خلف هؤلاء الشبان من ضباط الجيش وما رأوه منهم من سرعة استجابة لمطالب الجماهير العريضة التى عانت كثيراً كثيراً قبل يوليو .
وحتى لا تفيق الحياة الحزبية يوماً فى مصر وتطالب بعودة الدستور فما كان من ضباط يوليو إلا أن قاموا بحل الأحزاب و أنشأوا محاكم الثورة للزعماء و قادة الأحزاب ، لكن المؤسف حقاً أن هؤلاء كانوا لا يتوانون فى التقرب من الحكام العسكريين وكأن لسان حال محكمة الثورة تقول للشعب هؤلاء هم زعمائكم وحكامكم قبل ثورتنا !!! الإ أن البعض منهم كان لديه من الشجاعة ما يكفى ليكف هذه المحكمة عن سخريتها من قامات المصريين وقتها و يجعلها فى حرج شديد إذ يحكى الحكيم عن موقف الأستاذ محمد حسين هيكل حينما سأله القاضى العسكرى لماذا لم تقف أمام فساد الملك وطغيانه ؟ فما كان منه إلا أن قال له بهدوء " إن فاروق كان يخيفنا بكم إنتم يا رجال جيشه ، ألم يكن فاروق هو القائد الأعلى للجيش ؟! "
من مساوئ ثورة يوليو أيضاً كما يوردها أستاذنا الحكيم فى كتابه هذا ، أن الشعب فى معظمه تحول إلى مخبرين فيما عرف بـ " حركة التطهير " كل شخص يشى بزميله إلى السلطات الحاكمة حتى هو نفسه لم يسلم من الشكاية عن موقف اتخذه حسبه أحد الموظفين اهداراً للمال العام ، ويرى الحكيم أن هذا الأمر أدى إلى الفوضى فى الجهاز الإدارى للدولة حيث جعل كل رئيس يخشى من كل مرؤوس له حتى انعدمت روح تحمل المسؤولية لدى قطاع عريض من موظفى الدولة فكل شخص ينتظر تعلميات السيد ........ أبا كان هذا السيد لكن الأهم أن كل مسؤولية تلقى تبعياتها على الشخص الأعلى حتى لا يسأل هو عنها .
ورغم كل ما سبق لا يستنكف الحكيم أن يذكر حماسته المطلقة لهذه الحركة المباركة حتى و إن أصابه من رذاذها شيئاً فلقد كان الأمر قبلها يجعل المصريون يتحملون الكثير من أجل الخلاص من هذا الوضع القائم قبل يوليو ، كذلك فإن الثقة العمياء فى القائد وقتها الذى كان يتحدث إلى الجماهير بطريقة لم يعرفوها و لم يروا قبل ذلك حاكماً يحادثهم بهذا الشكل هى التى جعلت من المصريين مثقفيها قبل عوامها يثقون ثقة عمياء فى عبد الناصر إلى أن تحولت الثورة من ثورة الضباط الأحرار إلى "ناصر يا حرية " هكذا تحولت المبادئ إلى شخص و تحولت الدولة إلى فرد وأصبح يلهث وراء عاطفته .
لكن الحكيم ،ذلك الذى أقال عبد الناصر وزير المعارف لأجله و منحه وسام الدولة الذى لا يمنح إلا للرؤساء و والأمراء عندما تعدى عليه بالقول أحد شباب الصحفيين ، رأى مع مرور الوقت أن المحبوب تحول إلى معبود و أصبح هذا المعبود معصوماً من الخطأ و الجماهير كلها تهتف " ناصر ناصر " وكأن على قلوب ومعها عقول أقفالها فلا رأى يخالف رأى الزعيم فلا يجرؤ أحد على ذلك البته وأصحبت العقول فى الحناجر و البلاغة فى الخطب محل الفعل على الأرض فلو لم تحن الظروف أوصلت عبد الناصر إلى سدة الحكم لكان أديباً مرهف الحس و العاطفة ، هكذا يرى أستاذنا الحكيم .
الغريب فى الأمر حقاً أن الكل كان يعرف تلك الأمور ولا أدرى هل كانوا غائبين عن الوعى إلى تلك الدرجة التى يقف فيها الإنسان أمام كل أمر منطقى فيرفضه و يأخذ طريقاً آخر ، لا أدرى أى سحر هذا سحرهم به عبد الناصر و جعل من كبار مثقفى مصر ومفكريها يرددون ما يقول و يتغاضون عن أخطائه ، حيث يذكر الحكيم أن صديقاً فرنسياً سأله لماذا لم يكتب كتاباً يدافع به عن عبدالناصر صديقه كما فعل "مورياك " مع ديجول ، فقال له إن عبد الناصر لم يهاجمه أحد حتى أدافع عنه ! ! صحيح أن الأمة المصرية عرفت قبل ذلك الزعيم المعبود على أيام سعد زغلول لكن كانت الناس تعارضه و تقف أمام بعض أرائه التى لا تروق لهم لكن هذا الأمر كان قد إختفى تماماً مع عبد الناصر ! ! ويعلق على ذلك بقوله " كنت فى ثورة 1952 و أنا فى كهولتى أفكر بقلبى و كنت فى ثورة 1919 و أنا فى شبابى أفكر بعقلى ، لا أدرى تفسيراً لذلك "
ثم يبدأ الحكيم فى سرد الأخطاء الفادحة التى وقع فيها عبد الناصر بداية من اتفاقية الجلاء و التى كانت تتحطم مفاوضاتها كل مرة قبل الثورة على صخرة انفصال السودان إلا أن عبد الناصر وافق على ذلك ثم بعد ذلك تأميم قناة السويس الذى كان يرى الحكيم أنها كانت ستعود إلى مصر خلال 10 سنوات دون الحاجة إلى مثل هذا العمل المتهور من وجهة نظره الذى أهاج الدنيا كلها على مصر ثم بعد ذلك مأساة اليمن الذى بذل فيها الكثير دون أن يعود ذلك على مصر بأى فائدة ، ثم تأتى بعد ذلك حرب 67 وهى التى أتت على ما تبقى من رصيد لعبد الناصر لدى كثيرين فى مصر فعبد الناصر كان دوماً يهوش بالحرب و يسعى للسلام فى حين أن إسرائيل كانت دوماً تهوش بالسلام و تسعى للحرب و الذى يهوش بالسلام ويسعى للحرب يكسب الحرب و الذى يهوش بالحرب و يسعى للسلام يخسر الحرب و السلام معاً .
لقد إنتهت ثورة يوليو يوم الخامس من يونيو 1967 بهزيمة الجيش المصرى و تدميره بالكامل ، فالثورات تنتهى و تموت حين تصل إلى الحكم فثورة 1919 انتهت بدستور 23 و ثورة 52 انتهت باعتلاء زعيمها الحكم وقادنا إلى 3 هزائم فى عشر سنوات يقولون إنها تكلفت ما يقرب من 4مليارات من الجنيهات ، لكن الفارق أن مصر بعد ثورة 1919 هى من صنعت مصر الشعب بفنها و ثقافتها بتعدد أطيافها و مفكريها وحريتهم وفكرها أيضاً فثورة مصر فكرياً بدأت مع إنتهاء ثورة 1919 سياسياً ، لكن مصر 1952 هى من صنعت الدولة فأصبح كل شئ فى يد واحدة تصيغه كما تشاء فلم يعارض مصر يوليو أحد أو بالأحرى لم يشأ أحد أن يعارض مصر يوليو فالكل كان يثق فى الزعيم المعصوم فإنتهت ثورة الفكر لصالح ثورة السياسة .
لكن للإنصاف أن ما صنعته ثورة يوليو لم يكن كله سيئاً فلقد أسهمت كثيراً كثيراً فى العدالة الإجتماعية و قوانين الإصلاح الزراعى و المنشأت الصناعية الكبرى و غيرها ما كان بالأساس مادياً كذلك فإنها كانت سريعة فى قراراتها فى بعض الأمور التى كانت تظل بالسنوات حتى يتخذ فيها قراراً .
ما حكم التاريخ على هذا الرجل الذى أختصر مصر التى عمرها أكثر من خسمة آلاف سنة إلى عمر يعد على أصابع اليد الواحدة هو عمر ثورة يوليو و كأن مصر لم تكن قبل يوليو ؟؟!! و ما حكم التاريخ على ثورة كانت " ثورة الغلابة " فى البداية ثم حولها إلى سلسلة متوالية من الإخفاقات بسبب سوء تقدير عن قصد جائز لكن الكارثة الافجع التى لا يعادلها أى مكسب لأى ثورة كما يرى الحكيم هى أن ...غاب الوعى عن المصريين . . . . . . . . .
منقول ....