السبت، 27 أبريل 2013

انتاج الغاز الحيوي من المخلفات العضوية


أ - مقدمـــــة  
الغاز الحيوي  هو الغاز الذي ينتج من تحلل المواد العضوية بعيدآ عن الهواء,
وينتج عن عملية التحلل غاز الميثان بشكل رئيسي اضافة الى غاز ثاني أوكسيد الكربون وغازات أخرى,
وتبين الصورة المرفق جانبآ البكتريا المسببة لعملية التحلل.


‌ب - مكونات الغاز الحيوي
يتكون الغاز الحيوي من تحلل المواد العضوية في بيئة لاهوائية وينتج عن هذه العملية الغازات التالية:
1 - غاز الميثان: و نسبته تتراوح بين 50 الى 60 بالماية.
2 - غاز ثاني أوكسيد الكربون: ونسبته تتراوح بين 45 الى 35 بالماية.
3 - غازات مختلفة: وتشمل أول أوكسيد الكربون, الهيدروجين, كبريتيد الهيدروجين...الخ.

ويعتبر غاز الميثان الناتج الأهم لأنه غاز قابل للإحتراق.

‌ج - مواصفات غاز الميثان

يمتاز غاز الميثان بأنه غاز قابل للاشتعال, ويعطي لهب ازرق بدون دخان, ولكن اذا امتزج بالهواء يصبح هذا المزيج قابلآ للانفجار وبالمناسبة فإن كل الحوادث التي تحدث في مناجم الفحم سببها غاز الميثان وهذا هو حال الغاز المنزلي أيضآ, ومن ناحية اخرى فان لغاز الميثان تأثير سئ على ظاهرة الاحتباس الحراري حيث ان تأثيره يعادل 24 ضعف تاثير غاز ثاني أوكسيد الكربون, ومن ناحية السمية فغاز الميثان غير سام.

‌د - المواد الأولية المطلوبة لانتاج الغاز الحيوي
كما سبق وذكرنا ينتج الغاز الحيوي من تحلل المواد العضوية في بيئة لاهوائية وتشمل المواد العضوية سواءآ كانت مواد طازجة أو عبارة عن نفايات وتشمل ما يلي:
1 - الفواكه والخضروات.
2 - فضلات الطعام.
3 - روث الدواجن والمواشى.
4 - أوراق الشجر والمواد الناتجة عن عملية التعشيب.
5 - الورق غير المطبوع.
6 - ورق التواليت المستعمل أو المحارم الصحية, ورق الكرتون (بنسب قليلة).
7 - بالنسبة للسوائل يمكن إستخدام مياه المراحيض.

ويجب عدم خلط الفضلات الناتجة عن المواد المذكورة أدناه مع فضلات المواد المذكورة في القائمة السابقة:
1 - الزيوت والشحوم.
2 - اللحم والعظام.
3 - منتجات الألبان.
4 - الأسماك ومنتجاتها.
5 - أخشاب الأشجار والتبن.
إن السبب في عدم استخدام المواد الأربعة الأولى يعود الى أن تحللها ينتج غاز كبريتيد الهيدروجين والذي يعرف بغاز البيض الفاسد وهو غاز ذو رائحة نفاذة, يضاف الى ذلك تأثيره على عملية تحلل المواد العضوية حيث زيادة كمية الغاز قد تؤدي الى توقف عملية التحل. أما بالنسبة للأخشاب فهي غير قابلة للهضم من قبل البكتيريا المسببة للتحلل.

هـ - مصادر المواد الأولية المطلوبة لانتاج الغاز الحيوي
* المصدر الأول : من النفايات المنزلية 
إن المواد الأولية المطلوبة لانتاج الغاز الحيوي متوفرة في النفايات المنزلية حيث تشكل النفايات العضوية ما نسبته 50٪ على الأقل من وزن النفايات المنزلية, ومن المعروف أن معظم المدن تنتج كميات كبيرة جدآ من النفايات المنزلية غالبآ ما تردم في مطامر أو مدافن النفايات دون الاستفادة منها.

* المصدر الثاني : المباقر والمداجن 
ينتج عن عمل المداجن و المباقر كميات كبيرة من الروث الذي يمكن الاستفادة منه في توليد جزء من الطاقة اللازمة لهذه المداجن أو المباقر.

* المصدر الثالث : مصانع الأغذية ومصانع توضيب الخضار والفواكه وأسواق الخضار والفواكه.

* المصدر الرابع : الأراضى الزراعية التي يمتلكها الفلاحون  
يتوفر لدى الفلاحين كميات لا باس بها من فضلات المزروعات والتي تتمثل في الفواكه أو الخضروات التالفة أو المصابة أو المشوهة وبكميات كبيرة, وهذه الكميات كافية لأن توفر له الطاقة اللازمة لاستخدامات الفلاح المنزلية.

ويمكن للفلاح إستخدام نفايات المواد التالية لإنتاج الغاز الحيوي :
الخضروات والفواكه.
أوراق الشجر.
الروث الناتج عن تربية الماشية أو المداجن.

* المصدر الخامس : المزارع الخاصة, المجمعات السياحية والمطاعم خارج المدن.

و- إستخدامات الغاز الحيوي :
يستخدم الغاز الحيوي بشكل رئيسي في المجالات التالية
1 - الطبخ: يقدر استهلاك الفرد من الغاز الطبيعي ب 0.5 متر مكعب / يوميآ.
2 - الانارة : يمكن أن يستخدم أجهزة الاضاءة بالكيروسين المعروفة باللوكس للإضاء.
3 - توليد الكهرباء بواسطة المولدات صغيرة الحجم : يمكن تشغيل المحركات المخصصة لتوليد الكهرباء والمستخدمة على المستوى الفردي والتي تستخدم البنزين بعد استبدال الحاقن (الكربوراتور بآخر مخصص للوقود الغازي). ولكن نظرآ لأن عملية التوليد تستهلك كميات من الغاز الحيوي لذلك يفضل استخدام منظمتين واحدة تعمل بالغاز الحيوي والأخري بالوقود التقليدي (ديزل أو بنزين).

ز - المواد المتبقية من عملية التحلل : 
بعد إنتهاء تحلل المخلفات العضوية تخرج المواد الصلبة التي انتهى تخللها من مخرج الفائض على شكل مياه سوداء, وسواد المياه ناتج عن بقايا تحلل المخلفات العضوية بالهاضم, وإذا قمنا بتجفيف هذا السائل سوف يتبقى لدينا سماد عضوي أسود اللون ذو قيمة عالية, ويمتاز هذا السماد بتوازنه الطبيعي كما أنه قادر على تثبيت النيتروجين في التربة, ويمكن تخصيب التربة فيه إما مباشرة من خلال رش السائل الخارج من مخرج الفائض أو بعد تجفيفه ورشه البودرة الجافة المتبقية. وقد بينت الدراسات أن إنتاجية المحاصيل تزداد بنسبة من 30 الى 50 بالماية.


هناك فائدة أخرى للسائل الأسود الذي يفيض من الهاضم ألا وهو إستخدامه كخميرة عن تعبأة الهاضم لأول مرة, حيث أن إضافة هذا السائل وما يحويه من بكتيريا يسرع في بدء عملية الهضم.
ح - حساب كمية الغاز الناتج عن تحلل النفايات العضوية وكمية الطاقة المنتجة

إن 1 طن من الفضلات العضوية يعطي تقريبآ من 100 الى 400 متر مكعب من غاز الميثان ويعتمد ذلك على:
1 - كفاءة الهاضم المستخدم.
2 - درجة الحرارة المرافقة لعملية التحلل, إن درجة الحرارة المثلى تتراوح من 32 الى 37 درجة, وبالتالي اذا هبطت درجة الحرارة عن 15 فان عملية التحلل سوف تتوقف.
3 - توافر الرطوبة المناسبة فالبيئة الصحراوية لا تساعد على عملية التحلل ولذلك يجب ترطيب النفايات حتى نسمح لعملية التحلل بالاستمرار.
4 - كما تأثر نعومة هذه الفضلات على سرعة التحلل, فمثلآ النفايات المطحونة تعطى غاز بسرعة أكبر من النفايات الغير مطحونة.

الطاقة الناتجة عن الميثان الحيوي :
تقاس الطاقة الناتجة عن الميثان الحيوي بالكيلوكالوري/متر مكعب من الغاز, ويعطي غاز الميثان الصافي طاقة تعادل 9000 كيلوكالوري/متر مكعب في درجة حرارة 15 وضغط جوي واحد, أما الغاز الحيوي فيعطي طاقة تتراوح بين 4000 الى 7000 كيلوكالوري/مترمكعب وللمقارنة فان 1.33 الى 1.87 متر مكعب من الغاز الحيوي يعادل ليتر من الغازولين, كما أن 1.5 الى 2.1 مترمكعب من الغاز الحيوي يعادل ليتر من الديزل.

وللتسهيل نقدم المعطيات التالية :
* ان 1 متر مكعب من الغاز الحيوي يمكن أن يولد طاقة كهربائية ومن خلال مولد طاقة كهربائية صغير ومتنقل تساوي 1.8 كيلوات/ساعة, وهذا يعني تشغيل 18 لمبة استطاعة كل واحد منها 100 وات لمدة ساعة.
* اذا اردنا استخدام هذه الطاقة في استخراج المياه فيمكننا باستخدام الغاز الحيوي رفع 48 متر مكعب من الماء وذلك باستخدام مضخة غاطسة بقوة 1.5 حصان واستطاعة 1.1 كيلووات وذلك عند تشغيلها مدة 4 ساعات يوميآ .

ط - نماذج من أجهزة إنتاج الغاز الحيوي مصنعة بطرق يدوية
هناك العديد من التصماميم الخاصة بأجهزة إنتاج الغاز الحيوي وبكافة الأحجام, ولكن وبشكل عام يمكن تصنيعها يدويآ وهى غير معقدة وغير مكلفة.
الجهاز المبين أدناه يمكن تصنيعه بسهولة  وذلك من خلال استخدام البرميل المعدني المستخدم في تخزين الزيوت المعدنية ويبلغ حجم هذا البرميل 159 ليتر, ويمكن أن نضيف للتصميم المبين أدناه فتحة سفلية تكون قرب القاعدة مزودة بسدة معدنية مع مطاط مانع لتسرب السوائل وذلك لإستخدامه في تفريغ البرميل بعد إنتهاء عملية التحلل.

الاثنين، 8 أبريل 2013

عميد الأدب العربي



وُلد في الرابع عشر من شهر نوفمبر سنة 1889، في "عزبة الكيلو" قرب مغاغة، بالصّعيد المصري الأوسط، ونشأ في الريف ضعيف البنية كأنّه "الثُّمامة"، لا يستطيع ما يستطيعه النّاس، ولا ينهض من الأمر لما ينهض له النّاس، ترأف به أمّه دائما وتهمله أحيانا، ويلين له أبوه تارة ويزور عنه طورا، ويشفق عليه إخوته إشفاقا يشوبه احتياط في معاملتهم إيّاه، وشيء من الازدراء.
توفّي في الثّامن والعشرين من شهر أكتوبر سنة 1973 بالقاهرة، وقد استطاع ما لم يستطعه كثير من المبصرين، فتناقلت خبر وفاته العواصم وحزن لفقدانه الأدباء والباحثون والعلماء.
"أخذ العلم بأُذُنَيْه لا بأصابعه" فقهر عاهته قهرا، محروما يكره أن يشعر بالحرمان وأن يُرَى شاكيا متبرّما، جادّا متجلّدا مبتسما للحياة والدّرس والبحث، حتّى انتهى إلى حال العلماء المبَرَّزِينَ ومراتب الأدباء المفكّرين، فشغل النّاس ولن يزال.
فقد بصره طفلا : "اصابه الرّمد فأُهمل أيّاما، ثمّ دُعي الحلاّق فعالجه علاجا ذهب بعينيه". وحفظ القرآن في كُتّاب القرية وهو في التّاسعة، فأصبح "شيخا"، كذا كان أبوه يدعوه، وأمّه، "وسيّدنا" مؤدّب الصّبيان.
وقدم القاهرة سنة 1902 للتعلم في الأزهر، فدخله والقلبُ ممتلئ خشوعا والنّفس ممتلئة إجلالا. وأنفق فيه ثماني سنين لم يظفر في نهايتها بشهادة "العالميّة"، لأن "القوم كانوا مؤتمرين به ليسقطوه" ! نبأ عجيب حمله إليه شيخه سيّد المرصفي ليلة الامتحان، بعد أن صُلِّيَتِ العِشَاءُ... وفارق الأزهر وقد ارابه منه أمر، شديد الضّيق به وبأهله. وخاب أمل أبيه، فلن يرى ابنه من بين علماء الأزهر ولا "صاحب عمود في الأزهر ومن حوله حلقة واسعة بعيدة المدى" وأُتيحتْ للفتى حياة أخرى...
فما إن أُنشئت الجامعة المصريّة (الأهلية) سنة 1908 حتّى انتسب إليها الطّالب الأزهري، ولكنّه ظلّ مقيّدا في سجلاّت الأزهر : وقضى سنتين (1908-1910) يحيا حياة مشتركة، يختلف إلى دروس الازهر مصبحا وإلى دروس الجامعة مُمْسِيًا. وما لبث أن وجد في الجامعة روحا للعلم والبحث جديدة و"طعما للحياة جديدا" فشغف بالدّرس والتّحصيل حتّى نال درجة "العالميّة" (الدكتوراه) سنة 1914 برسالة موضوعها "ذكرى أبي العلاء"، فكانت "أوّل كتاب قُدّم إلى الجامعة، وأوّل كتاب امتُحِنَ بين يدي الجمهور، وأول كتاب نال صاحبه إجازة علميّة منها".
ثمّ سافر الفتى إلى فرنسا لمواصلة التّعلّم، فانتسب إلى جامعة مونبيليى حيث قضّى سنة دراسيّة (1914-1915) ذهب بعدها إلى باريس، وانتسب إلى جامعة السّوربون حيث قضى أربع سنوات (1915-1919). وما كاد يختلف إلى دروس التاريخ والأدب فيها "حتّى أحسّ أنّه لم يكن قد هيّئ لها... وأنّ درسه الطويل في الأزهر وفي الجامعة (المصريّة) لم يهيّئه للانتفاع بهذه الدّروس". فأقبل على قراءة الكتب المقرّرة في المدارس الثانويّة، ولم يجد بدّا من أن يكون "تلميذا ثانويا في بيته وطالبا في السّوربون".
أرسل ليدرس التّاريخ في السّوربون، فما لبث أن أيقن بأنّ الدرجات العلميّة لا تعني شيئا إن هي لم تقم على أساس متين من الثقافة. وليس إلى ذلك من سبيل سوى إعداد "الليسانس". وقد صرّح بذلك في الجزء الثالث من كتاب الأيّام، قال : "كان (الفتى" قد أزمع أن يظفر قبل كل شيء بدرجة "الليسانس" ثم يتقدّم لدرجة الدكتوراه بعد ذلك. ولم يكن الطلاّب المصريون - إلى ذلك الوقت - يحاولون الظفر بدرجة الليسانس هذه، لأنّها كانت تكلّف الذين يطلبونها عناء ثقيلا".
وأحرز طه حسين درجة "الليسانس في التّاريخ" سنة 1917، فكان أوّل طالب مصري ظفر بهذه الشهادة من كليّة الآداب بالجامعة الفرنسيّة.
إنّ أمر هذا الفتى عَجَبٌ ! فهو قد كان يتهيّأ لامتحان الليسانس ويعدّ في المدّة نفسها رسالة "دكتورا جامعة" باللّغة الفرنسيّة موضوعها : "دراسة تحليليّة نقديّة لفلسفة ابن خلدون الاجتماعيّة" (Etude analytique et critique de la philosophie sociale d'Ibn Khaldoun).
إنّ أمر هذا الفتى عجب ! فهو لم يكد يفرغ من امتحان الدكتوراة حتّى نشط لإعداد رسالة أخرى، فقد صحّ منه العزم على الظفر "بدبلوم الدّراسات العليا" (Diplôme d'Etudes Superieures) وهو شهادة يتهيّأ بها أصحابها للانتساب إلى دروس "التبريز في الآداب". وما هي إلاّ أن أشار عليه أُستاذه بموضوع عسير مُمْتع مرير، وهو : "القضايا التي أقيمت في روما على حكّام الأقاليم الذين أهانوا جلال الشّعب الرّوماني، في عهد تباريوس، كما صوّرها المؤرّخ تاسيت" (La loi de lèse-majesté, sous Tibère, d'après Tacite) فقبله الطالب "طائعا قلقا مستخذيا"، ومارسه بالصّبر على مشقّة البحث وبالمثابرة على الفهم حتّى ناقشه ونجح فيه نُجْحًا حسنا سنة 1919.
عاد طه حسين إلى وطنه، فلم تُمهله الجامعة المصريّة وعيّنته مباشرة أستاذا للتاريخ القديم (اليوناني والرّوماني)، فظلّ يُدرّسه طيلة ستّ سنوات كاملات (1919-1925).

بعد اكثر من قرن كامل على ميلاده، و40 عاما على وفاته، ما زال عميد الادب العربي الدكتور طه حسين احد الاركان الاساسية في تكوين العقل العربي المعاصر، وصياغة الحياة الفكرية في العالم العربي، وملمحاً أساسياً من ملامح الادب العربي الحديث... بل ان الاجيال الجديدة من ابناء الامة العربية لا تزال تكتشف جوانب جديدة من القيمة الفكرية والانسانية لاحد رواد حركة التنوير في الفكر العربي... وما زالت اعمال طه حسين ومعاركه الادبية والفكرية من أجل التقدم والتخلي عن الخرافات والخزعبلات التي حاصرت وقيدت العقل العربي لعدة قرون، من اهم الروافد التي يتسلح بها المفكرون العرب في مواجهة الحملات الارتدادية التي تطل برأسها في عصرنا. 
وما زالت السيرة الذاتية لطه حسين وما تجسده من كفاح انساني وفكري مدرسة هامة ما اشد حاجة الاجيال الجديدة للتعلم منها والتأمل فيها. 
من عزبة صغيرة (اصغر من القرية) في صعيد مصر بدأت رحلة طه حسين، فقد ولد عميد الادب العربي في تلك البقعة الصغيرة التي تقع على بعد كيلو متر واحد من مغاغة بمحافظة المنيا في وسط صعيد مصر... كان ذلك في الرابع عشر من نوفمبر عام 1889م، وكان والده حسين علي موظفاً في شركة السكر وانجب ثلاثة عشر ولداً كان سابعهم في الترتيب "طه" الذي اصابه رمد فعالجه الحلاق علاجاً ذهب بعينيه (كما يقول هو عن نفسه في كتاب "الايام"). 
وفي عام 1898 وبينما لم يكن قد اكمل السنوات العشر كان طه حسين قد اتم حفظ القرآن الكريم... وبعد ذلك بأربع سنوات بدأت رحلته الكبرى عندما غادر القاهرة متوجها الى الازهر طلباً للعلم. في عام 1908 بدأت ملامح شخصية طه حسين المتمردة في الظهور حيث بدأ يتبرم بمحاضرات معظم شيوخ الازهر فاقتصر على حضور بعضها فقط مثل درس الشيخ بخيت ودروس الادب... وفي العام ذاته انشئت الجامعة المصرية، فالتحق بها طه حسين وسمع دروس احمد زكي (باشا) في الحضارة الاسلامية واحمد كمال (باشا) في الحضارة المصرية القديمة ودروس الجغرافيا والتاريخ واللغات السامية والفلك والادب والفلسفة على اساتذة مصريين واجانب. 
في تلك الفترة اعد طه حسين رسالته للدكتوراه نوقشت في 15 أيار 1914م. هذه الرسالة (وكانت عن ذكرى ابي العلاء) اول كتاب قدم الى الجامعة واول رسالة دكتوراه منحتها الجامعة المصرية، واول موضوع امتحن بين ايدي الجمهور. 
ومثلما كانت حياته كلها جرأة وشجاعة واثارة للجدل فقد احدث نشر هذه الرسالة في كتاب ضجة هائلة ومواقف متعارضة وصلت الى حد طلب احد نواب البرلمان حرمان طه حسين من حقوق الجامعيين "لأنه الف كتابا فيه الحاد وكفر"!، ولكن سعد زغلول رئيس الجمعية التشريعية آنذاك اقنع النائب بالعدول عن مطالبه. 

                             الرحلة الثانية 

اذا كانت الرحلة الاولى ذات الاثر العميق في حياة طه حسين وفكره هي انتقاله من قريته في الصعيد الى القاهرة... فإن الرحلة الاخرى الاكثر تأثيراً كانت الى فرنسا في عام 1914 حيث التحق بجامعة مونبلييه لكي يبعد عن باريس احد ميادين الحرب العالمية الاولى... وهناك درس اللغة الفرنسية وعلم النفس والادب والتاريخ. ولاسباب مالية اعادت الجامعة المصرية مبعوثيها في العام التالي 1915 لكن في نهاية العام عاد طه حسين الى بعثته ولكن الى باريس هذه المرة حيث التحق بكلية الاداب بجامعة باريس وتلقى دروسه في التاريخ ثم في الاجتماع حيث اعد رسالة اخرى على يد عالم الاجتماع الشهير "اميل دوركايم" وكانت عن موضوع "الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون" حيث اكملها مع "بوجليه" بعد وفاة دوركايم وناقشها وحصل بها على درجة الدكتوراه في عام 1919م ثم حصل في العام ذاته على دبلوم الدراسات العليا في اللغة اللاتينية، وكان قد اقترن في 9 اغسطس 1917 بالسيدة سوزان التي سيكون لها اثر ضخم في حياته بعد ذلك. 
في عام 1919 عاد طه حسين الى مصر فعين استاذاً للتاريخ اليوناني والروماني واستمر كذلك حتى عام 1925 حيث تحولت الجامعة المصرية في ذلك العام الى جامعة حكومية وعين طه حسين استاذاً لتاريخ الادب العربي بكلية الآداب. 

                              أولى المعارك 



رغم تمرده على الكثير من اراء اساتذته الا ان معركة طه حسين الاولى والكبرى من اجل التنوير واحترام العقل تفجرت في عام 1926 عندما اصدر كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي احدث ضجة هائلة بدأت سياسية قبل ان تكون ادبية. كما رفعت دعوى قضائية ضد طه حسين فأمرت النيابة بسحب الكتاب من منافذ البيع واوقفت توزيعه... ونشبت معارك حامية الوطيس على صفحات الصحف بين مؤيدين ومعارضين لهذا الكتاب. 
وفي عام 1928 وقبل ان تهدأ ضجة كتاب الشعر الجاهلي بشكل نهائي تفجرت الضجة الثانية بتعيينه عميداً لكلية الآداب الامر الذي اثار ازمة سياسية اخرى انتهت بالاتفاق مع طه حسين على الاستقالة فاشترط ان يعين اولاً. وبالفعل عين ليوم واحد ثم قدم الاستقالة في المساء وأعيد "ميشو" الفرنسي عميداً لكلية الآداب، ولكن مع انتهاء عمادة ميشو عام 1930 اختارت الكلية طه حسين عميداً لها ووافق على ذلك وزير المعارف الذي لم يستمر في منصبه سوى يومين بعد هذه الموافقة وطلب منه الاستقالة. 


                           الازمة الكبرى

وفي عام 1932 حدثت الازمة الكبرى في مجرى حياة طه حسين... ففي شباط 1932 كانت الحكومة ترغب في منح الدكتوراه الفخرية من كلية الآداب لبعض السياسيين... فرفض طه حسين حفاظاً على مكانة الدرجة العلمية، مما اضطر الحكومة الى اللجوء لكلية الحقوق...
ورداً على ذلك قرر وزير المعارف نقل طه حسين الى ديوان الوزارة فرفض العمل وتابع الحملة في الصحف والجامعة كما رفض تسوية الازمة الا بعد اعادته الى عمله وتدخل رئيس الوزراء فأحاله الى التقاعد في 29 آذار 1932 فلزم بيته ومارس الكتابة في بعض الصحف الى ان اشترى امتياز جريدة "الوادي" وتولى الاشراف على تحريرها، ثم عاد الى الجامعة في نهاية عام 1934 وبعدها بعامين عاد عميداً لكلية الاداب واستمر حتى عام 1939 عندما انتدب مراقباً للثقافة في وزارة المعارف حتى عام .1942
ولأن حياته الوظيفية كانت دائماً جزءاً من الحياة السياسية في مصر صعوداً وهبوطاً فقد كان تسلم حزب الوفد للحكم في 4 شباط 1942 ايذاناً بتغير آخر في حياته الوظيفية حيث انتدبه نجيب الهلالي وزير المعارف آنذاك مستشاراً فنياً له ثم مديراً لجامعة الاسكندرية حتى احيل على التقاعد في 16 تشرين الاول 1944 واستمر كذلك حتى 13 حزيران 1950 عندما عين لاول مرة وزيراً للمعارف في الحكومة الوفدية التي استمرت حتى 26 حزيران 1952 وهو يوم احراق القاهرة حيث تم حل الحكومة.
وكانت تلك آخر المهام الحكومية التي تولاها طه حسين حيث انصرف بعد ذلك وحتى وفاته عام 1973 الى الانتاج الفكري والنشاط في العديد من المجامع العلمية التي كان عضواً بها داخل مصر وخارجها.


منقول: http://forum.rewech.com/showthread.php?t=16578