الجمعة، 18 يناير 2013

أنا .. والقهوة .. وهواك



القهوة التي أتحدث عنها هي القهوة الشعبية المصرية وليست " الكوفي الشوب" الهاديء المكيف الذي يذهب إليه أولاد الناس لأن به "wireless", ليست هذه طبعاً. إنما المقصودة هي تلك القهوة البلدي التي يضج فيها الناس بالحديث الصاخب من كل اتجاه من انحائها. أبحث عن كرسي فارغ بصعوبة وأسرع للجلوس عليه قبل أن يجلس عليه شاب أخر . أتطلع إلي النادل فلا أجده كالعادة فهو مشغول ذهاباً وإياباً لإحضار الطلبات. أسمعه من خلفي يقول " وعندك واحد شاي علي بسطة" ألحقه بسرعة قبل أن يختفي مرة أخري " قهوة مظبوط لو سمحت". نعم أنا من محبي القهوة ليست لحلاوتها وإنما نظراً لما يقولون عنها من أنها تزيد التركيز والإنتباه لذلك العالم الخارجي العجيب. الجو من حولي رائع , كثير من الشباب ملتفين حول التليفزيون يتابعون مباراة ريال مدريد وتشيلسي في نهائيات دوري أبطال أوروبا. يصل النادل بالقهوة فيعلو صوت عصام الشوال معلناً عن هدف لتشيلسي الإنجليزي. الشباب يأتون جماعات كل شلة تجلس علي طاولة مستديرة بعضهم يلعب الشطرنج بينما كبار السن يفضلون لعب "الطاولة" وهم يدخنون الشيشة. أحب دخان الشيشة في الحقيقة خصوصاً تلك التي بنكهة التفاح والتي يفضلها الشباب. أحب أن أنظر إليهم وهم يدخنونها وتشعشع أنفي برائحتها الخلابة. أشرب القهوة كما يشرب الناس البيبسي فأنا أشربها بسرعة علي خلاف المعتاد والمستقر عليه في كتاب " دليل شرب القهوة" . لا أشربها لحلاوتها فهي مرة وإنما نظراً لما يقولون عنها من أنها تزيد التركيز والإنتباه. 

الأربعاء، 9 يناير 2013

رواية الأفيون - مصطفي محمود




هناك مليون شيء وشيءء في هذه الدنيا لا نعلمة ولكن جهلنا لا يمكن أن يكون عذرا لنمشي في الشوارع نهذي ذلك الهذيان الملتاث
لا بد من عمل ..
لا بد من عمل ..
لا يمكن أن تتوقف الدنيا لمجرد أن هناك أشياء نجهلها 
هذه هى القيمة الأخيرة التى تسعى الرواية لترسيخها
*****
تبدو عبارة كارل ماركس ( الدين أفيون الشعوب ) هى المحور الأساسي في هذا النص، واعتقد أن الكاتب متجردا رأى أن العبارة
 تحمل جانبا من الصحة، وهى ان فهم الدين بشكل معين يجعل منه وسيلة للتسلط على الشعوب واستعبادها كما يمكن بفهم آخر أن يتخذه الناس ذريعة للهروب من مواجهة الواقع، وجانب آخر يفهم سلبيا من العبارة، أن صاحبها يفتقد للآثار الروحية الايجابية للدين.

النص يحمل مقابلة بين النظرية المادية / واقعية والتى يمثلها الأفندى وابراهيم، وتتخذ من الواقع/ المال / اللقمة النضيفة محركا لها ولا تتهيب سرقة الفلاحين كوسليلة لكسب الرزق / الحرام، وأخري صوفية / درويشية يمثلها عبدالمقصود، ويحرك هذه الشخصية سير الأولياء والصالحين / كما وردت في الآثار الباقية فيظهر سيدي الرفاعى والسيد البدوى والممعادل المعاصر بويحي. ويخلص هذا التقابل الى أن التطرف على الجانبين يؤدي لمصير واحد السجن / المورستان.
ويظهر في خلال الاحداث ثم يتصدر المشهد في النهاية النظرة العلمية متمثلة في فتحى الأبن، والذي يتحرك في الرواية بناء على ما يتعلمة في الجامعة، ويذكر فرويد وداروين ويمثلان مصادر المعرفة لدية والذي يحل الاشكال بالعبارة الاخيرة التى تختتم بها الرواية.

من أجمل ما وجدت في الرواية الصراع والتشابك بين هذه النظرات المختلفة. فمشهد الشاب فتحى الذي يشكو بتورم ذراعة ويفضل الذهاب للدكتور، في حين والده عبد المقصود يصف له لبخة بذر خلنجان هذا التقابل بين نظرة علمية حديثة ومخلفات علوم قديمة / جالينيوس وتذكرة داوود.
وكذلك مشهد الحلم الذي يراه عبد المقصود ويؤرق منامه، وكيف يؤوله الرجل ببشارة المهدة ويؤيده الاب/ الجد. ثم كيف يفسره الشاب فتحى على أنه هلوسه جنسية دالة على طريقة فرويد.

بقلم/ محمد شعبان

الثلاثاء، 8 يناير 2013

حساب سرعة الضوء

  بعد أن حسم العلماء - بعد لأي - قضية محدودية سرعة الضوء، وحدّدوها بما يقل قليلاً عن ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، طفقوا يحاولون حل أحجية أخرى، تتعلق بكيفية انتشار الضوء. ماذا عساه يكون الوسط المسئول عن انتقال الضوء؟! كان العلماء على بيّنة من أن الصوت يمكنه الانتقال عبر أوساط متباينة، فالناس في ثرثرتهم يطلقون الموجات الصوتية لتنتقل عبر الهواء - وهو غاز - والحيتان تغني لبعضها في الماء - وهو سائل - ونحن بوسعنا أن ننصت لصوت اصطكاك أسناننا المنتقل عبر وسط من العظام الصلبة ما بين الأسنان والأذنين.

تجربة أوتو فون جوريك سنة 1657

  وبوسع الضوء أن ينتقل بالمثل خلال الغازات والسوائل والأجسام الصلبة، كالهواء والماء والزجاج. بيد أن هناك فارقا جوهريّا بين انتقال الضوء والصوت، ذلك الفارق الذي أوضحه العالم «أوتو فون جوريك» Otto Von Guericke ضمن سلسلة من التجارب الشهيرة التي أجراها عام 1657 بمدينة ماجدبورج Magdeburg الألمانية.
أفرغ فون جوريك من الهواء آنية زجاجية محتوية على ناقوس يُصدر رنينا. ومع سحب الهواء من داخل الآنية، لم يعد بمقدور الحضور سماع صليل الناقوس، وإن ظل باستطاعتهم رؤية ذراع الناقوس وهي تقرعه. كان من الواضح - تبعا لذلك - عدم إمكانية انتقال الصوت في الفراغ. وفي ذات الوقت، أظهرت التجربة أن بمقدور الضوء أن ينتقل في الفراغ (فالناقوس لم يختف، والآنية لم تُظلمْ). ومادام بوسع الضوء أن ينتقل - على غير المألوف - خلال الفراغ، فهناك شيء ما ينقل الضوء عبره.

                             ميكلسون

 شرع العلماء - حيال هذا التناقض الظّاهري - في التساؤل عما إذا كان الفراغ «خاويًا» تماما، أم أن هناك شيئا آخر متبقيا به، يمثّل الوسط الذي ينقل الضوء؟! وبحلول القرن التاسع عشر، كان الفيزيائيون قد تبنّوا فكرة أن الكون برمّته تتخلله مادة ما، أطلقوا عليها اسم «الأثير» Ether، وأنها - بكيفية ما - تؤدي دور الوسيط الذي يحمل الضوء.
خلع الفيزيائيون على هذا الوسط - وفقًا لتصوراتهم - صفات فريدة. فهو مادة ضئيلة الكثافة بصورة استثنائية؛ فهي أخف من الهواء ملايين الملايين من المرات، بحيث إن ضآلة كثافتها لا تؤهلها لبذل أي مقاومة لحركة أي جسم يمرق خلالها. وهي شفافة، وخاملة من الناحية الكيميائية، وتنعدم معامل الاحتكاك بها. وهي منتشرة حولنا في كل مكان، وإن كان استشعارها من الصعوبة بمكان. وبالرغم من كل هذه العقبات، اعتقد «ألبرت ميكلسون» Albert Michelson، وهو أول أمريكي يحرز جائزة نوبل في الفيزياء، أن بمقدوره إثبات وجود الأثير.

                        أوتو فون جوريك

  كان والدا «ميكلسون» اليهوديان قد لاذا بالفرار من الاضطهاد المسلّط عليهما في بروسيا، وذلك عام 1845 عندما كان «ألبرت» يبلغ من العمر عامين فقط. وقد ترعرع في سان فرانسسكو ودرس بها، قبل أن يمضي ليلتحق بأكاديمية الولايات المتحدة البحرية، حيث تخرج - وكان ترتيبه الخامس والعشرين - ضمن رجال الأسطول البحري، وإن جاء ترتيبه الأول في مادة «ضوئيات»، مما حدا بالمشرف على الأكاديمية لأن يقول له: «لو أنك - مستقبلا - أوليت اهتماما أقل بالأمور العلمية، واهتماما أوفر بشئون المدفعية البحرية، فربما أصبحت ذا نفع لبلادك». على أية حال، فقد تحول «ميكلسون» ليصبح باحثا متفرغا في الضوئيات. وفي سنة 1878 - وهو بعد في الخامسة والعشرين - قدر سرعة الضوء بالمقدار299910 كم/الثانية، وهو الرقم الأدق عشرين مرة من كل التقديرات السابقة له.
بعدئذ، صمم «ميكلسون» في عام 1880 التجربة التي كان يأمل من خلالها في إثبات وجود مادة الأثير الحاملة للضوء. كان جهازه مصمما بحيث يقسم حزمة مفردة من الضوء، إلى شعاعيْن منفصليْن متعامديْن، أحدهما يتحرك في نفس اتّجاه حركة الأرض في الفضاء، في حين يتحرك الآخر في الاتجاه العمودي عليه. كان كلا الشعاعين يذرع نفس المسافة، ثم ينعكس على سطح مرآة. ثم يعود الشعاعان فيتحدان مكوّنيْن شعاعا مفردا. وباندماج الشعاعيْن، تحدث لهما الظاهرة المعروفة «بالتداخل» Interference، التي تتيح لميكلسون أن يقارن بينهما ويتعرف على مدى التباين في زمنيْ انتقالهما.
كان ميكلسون يعرف أن الأرض تتحرك حول الشمس بسرعة خطّية تبلغ نحو 100000 كم/الساعة، وهو ما يعني - افتراضا - أنها تمرق خلال الأثير بنفس هذه السرعة. ولما كان من المفترض أن الأثير وسط ساكن يتخلل كل ما بالكون، فلابد أن يُحدث مرور الأرض به نوعا من «الرياح الأثيرية»، مثل تلك الرياح المتوهمة التي نستشعرها إذ تمرق بنا سيارة مسرعة في يوم غير ذي رياح، فليست هناك رياح حقيقية، وإنما نحن نستشعرها نتيجة تحركنا نحن. من ثم، ومادام الضوء يُحمل ويُنقل بفعل الأثير، فلابد وأن يتأثر بسرعة الرياح الأثيرية. وبتحديد أكثر، لابد أن يتحرك أحد الشعاعين الضوئييْن في تجربة ميكلسون في اتجاه رياح الأثير ثم في عكس اتجاهها، ومن ثم فلابد أن تتأثر سرعته بدرجة محسوسة، في حين أن الشعاع الآخر الذي ينتقل عموديا على الأثير سيتأثر بدرجة أقل. فإذا اختلف زمنا حركة الشعاعيْن، فبمقدور ميكلسون أن يتخذ من هذا التفاوت دليلا قويا يؤيد وجود الأثير.
بحث ميكلسون لتجربته عن أفضل مصادر للضوء، وعن أجود المرايا، واتخذ كل الاحتياطات المتاحة في تصنيع جهازه وتجميعه. وهيّأ كل شيء على أكمل وجه، فضبط منسوب الجهاز واتّجاهه، وصقل المرايا. وإمعانا في زيادة حساسية المعدات والتقليل من الخطأ إلى أدنى حدوده، جعل منظومته تطفو على سطح حوض واسع من الزئبق، بما يعزلها عن أية تأثيرات خارجية، مثل الاهتزازات الناجمة عن وقع أقدام السائرين حتى على مبعدة من جهازه.
كان بيت القصيد في هذه التجربة هو إثبات وجود الأثير، ومع كل ما بذله ميكلسون من احتياطات، فقد دهش غاية الدهشة لإخفاقه المطبق في قياس أي فارق في زمنيْ وصول شعاعيْ الضوء المتعامديْن، أو تلمس أية بادرة على وجود الأثير.
وفي سعيه اليائس لاستكشاف مكمن الخطأ، استعان ميكلسون بالكيميائي «إدوارد مورلي» Edward Morley، فأعادا معا تصنيع الجهاز، مُدخليْن التحسينات على كل مكوّناته بما يكفل للتجربة مزيدا من الدقة والحساسية، وأعادا القياسات مرارًا وتكرارًا. وفي خاتمة المطاف، في عام 1887، وبعد سبع سنوات من التجارب المتكررة، أذاعا نتائجهما النهائية القاطعة: ما من دليل على وجود الأثير.
تقبّل العلماء تلك النتيجة على مضض، فقد كان وجود الأثير هو السبيل الوحيد الممكن تصوّره لتفسير انتقال الضوء. وحتى ميكلسون امتعض، وألفى صعوبة في تقبّل النتائج التي توصّل إليها بنفسه، إذ تفاقمت أزمة انتفاء وجود الأثير أكثر فأكثر، حيث كان من المفترض أنه أيضا المسئول - إلى جانب حمله للضوء - عن حمل كلا المجاليْن الكهربي والمغناطيسي.
وهكذا أثبت ميكلسون - قبل نهاية القرن التاسع عشر - انتفاء وجود الأثير. ومن سخريات القدر أنه - وهو الذي شيد سمعته المهنية على أساس سلسلة كاملة من التجارب الناجحة في مجال الضوئيات - قد حقق فتحه العلمي الأعظم بنتائج تجربة فاشلة. وهكذا كان إخفاق تجربته، أجدى من نجاحها. فقد كان هدفه الأوحد طوال تجاربه هو إثبات وجود الأثير وليس انعدامه. وقد تقبل الفيزيائيون بعدئذ أن بوسع الضوء أن ينتقل - بكيفية ما - في الفراغ، بصرف النظر عن وجود أي وسط.
لقد استلزم إنجاز ميكلسون جهازا مكلفا ذا تصميم خاص، وسنوات من الجهود المضنية. وفي ذات الوقت تقريبا، توصل إلى الخلاصة نفسها عن انعدام وجود الأثير، شاب مراهق بمفرده، دون أن يدري بفتح ميكلسون العلمي، ولكنه لم يتوصّلْ إلى ذلك عن طريق التجريب، وإنما على أساس من الأفكار النظرية المحضة. كان اسم ذلك الفتى.... ألبرت أينشتاين.

بواسطة/ مجلة العربي العلمي



الأربعاء، 2 يناير 2013

في الوقت الضائع - توفيق الحكيم



لحظات الضعف والمرض واحدة من أقسى الفترات التي نمر بها في حياتنا لكنها في ذات الوقت قد تكون محفز إبداعي لأعمق الأفكار، الكتاب محور عرضنا اليوم "في الوقت الضائع" للراحل توفيق الحكيم به عدد من الأفكار التي كتبها أثناء مرضه الأخير أو مرحلة الوقت الإضافي الضائع من حياته كما أطلق عليه هو حيث أنه كان يرى بلغة الكرة أن حياته في الشوط الأخير، وعلى الرغم من أن المنطق يملي عليه أن ينصرف ويغادر الملعب ليقضي وقته المتبقي في نوع من اللعب الذي يختلط فيه الجد بالهزل وينتهي بالإبتسام ليريح نفسه إلا أن القدر ومشيئة الله دفعا به أن ينتهج خطة أخرى لقضاء الوقت الأخير أو الضائع في حياته بين عالم الأفكار والكتابة وذلك عندما دعاه رئيس تحرير الأهرام في ذلك الوقت إبراهيم نافع للإستمرار في الكتابة. 
يقول الحكيم أنه كان على صداقة شخصية مع عزرائيل منذ عام 1945 عندما ترك الخدمة في الحكومة وجلس كعاطل على مقهى "ريتز" حيث أنه كان يفكر في حياته ولا يرى لها معنى، ووقتها طلب الحكيم من عزرائيل أن ينهى حياته في أحد الأيام وكان ثلاثاء....وتخيله في شكل رجل بشري ودار بينهم حديث طويل إستخلص منه الحكيم أن عزرائيل ليس صاحب الصورة التي يرسمها لها الغرب كهيكل عظمي حامل لمنجل لحصد أرواح البشر. فعزرائيل هو في الحقيقة صورة للموظف المجتهد المظلوم... هو العمل المتواصل الذي لا يعرف راحة... هو الجراب الذي يحمل بداخله ما يلقي فيه من لعنات البشر. العلاقة بين الحكيم والموت كانت دوماً تحمل سر ما، فهي علاقة ممتدة منذ أن كان طفلاًًَ يصاب من حين لأخر بحمى تلزمه الفراش نحو ما يقرب من ثلاثة أيام عندما يقع بصره على جنازة مارة في الطريق، وعندما أدرك أهله هذا كانوا يحرصون على إبعاده عن مناظر الجنازات ولكن بقى سؤال في ذهنه عن ذكريات تلك الطفولة مع الموت وهو "ما هي العلاقة بين شيء خارجي كمنظر جنازة وإصابته السريعة بمرض داخل كالحمى؟ وعندما كبر وقرأ للشاعر "جوته" وجد إجابة في إحدى القصائد التي حكى فيها عن طفل تعلق فجأة بصدر أبيه ليحميه من صوت خفي يعرض عليه هدايا كثيرة ولعب وأزهار كي يذهب معه الطفل، وأعتقد الأب أن حديث طفله عبث أطفال ولم يهتم لكن ما إن بلغ الطفل عتبة البيت حتى فارق الحياة، وبتلك القصة يعتقد الحكيم أن ملك الموت لم يحاول إغرائه وإستدعاءه وهو طفل وإنما فقط إكتفى بأن يشعره بوجوده وهذا الإشعار كان وحده كافي لأن يقعده في الفراش محموماً عدة أيام. 
الروح هي الشيء الثابت بإعتقاد الحكيم أما الجسد فهو المتغير، فالإنسان يتغير جسده بتغير مراحل العمر والأشجار تتغير أوراقها بتغير الفصول وحتى ملابس الإنسان تتغير أيضاً بتغير العمر والزمن لكن الروح غير ذلك لا يطالها تغيير مع الزمان أو المكان... الحال متشابه مع الحضارة فمظاهرها المادية تتغير تبعاً للظروف وتغير المكان والزمان لكن روح الحضارة كالشمس تطلق مشاعر وإحساسات قبل أن تظهر وسائلها المادية فهي الإحساس الذي يجعل من الإنسان إنساناً. هناك مخاوف كانت تواجه الحكيم منها أن يحدث ويتغلب التلقين والحفظ في أمور الدين والدنيا على الفكر، بحيث يثقل الطلاب في المدارس بحفظ الآيات الدينية الطويلة الصعبة الفهم بالنسبة لحجم إدراكهم كصغار مما يؤتي بنتائج عكسية، وعلى رجال الدين أن يتسامحوا مع الأبحاث التي تتحدث عن الدين عن طريق العقل، فملكة العقل لا تنمو إلا بالتفكير الحر لذلك ليترك رجال الدين المفكرين يتحدثون كما يريدون فضجيجهم لن يصل خبره للقلب الذي يخفق رغماً عن كل هذا بالعقيدة. 
"إذا أردت أن تكتب اليوم من جديد "عودة الروح" و"عصفور من الشرق" و"أهل الكهف"... كيف تكتبها؟ سؤال وجه للحكيم في باريس ويبدو عليه كما ظن هو أنه سطحي المحتوى لا يهدف سوى للتسلية والفكاهة لكن هذا الظن لم يستمر طويلاًًَ برأس الحكيم فعندما خلا لذاته وتأمل السؤال أجاب مؤكداً أن إفتراض أن يعود لشبابه مرة أخرى ليكتب تلك الروايات من جديد أمر صعب فربما لو عاد للشباب لما حمل القلم بالأساس بل وقد يلجأ لحياة الترف عن حياة الصرامة، خاصة وأن صرامة الفكر لطالما كانت متعبة ومجهدة له لكن ذلك الترف كان حتماً سيرفضه طبعه الذي ولد به ذلك الطبع الذي أهله لرسالة القلم. 
سؤال العلم كما حدده الحكيم هو "كيف؟" أما سؤال الفلسفة فهو "لماذا؟" ففي العلم نسأل كيف نعيش؟ في حين أننا في الفلسفة نسأل "لماذا نعيش؟" وهذا السؤال "لماذا؟" يعد من خصائص الإنسان وحده وبغيره لا تقوم الإنسانية، فالحيوان حياته طعام وهواء وغاية الحياة سؤال لا يمكنه الإجابة عليه لقصور وجدانه والعلم هنا لا يمكنه أن يقدم إجابة للحيوان لعجز الآته ومعامل أبحاثه... ولهذا لابد للإنسان أن يشعل نور قلبه ويحرك عضلة عقله ليفتح له الطريق للدين والفن وكل مفردات العالم العلوي الذي لا يعرفه الحيوان ولو تحقق هذا ستكون الفلسفة مقترنة بذات الإنسان مما يجعلها تعيش مهما تقدم العلم لأن الإنسان طوال ما هو إنسان سوف يظل يسأل "لماذا؟". 
"ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان، ولكن إلى جانب طعام الفم لابد من طعام الوجدان" عبارة إستهل بها الحكيم الحديث عن "طعام الوجدان" موضحاً أن الإنسان في طفولته بعد أن يترك ثدي أمه يبدأ في الحبو مستخدماً يديه ورجليه ولكن ليس الطفل وحده هو الذي يلعب فصغار الحيوانات تلعب لمعرفة قدراتها العضلية لكن الطفل يفعل ذلك لكي يكتشف الأشياء من حوله، وهذا اللعب في الطفولة هو المنبع الأول للفن الذي يعرف على أنه نشاط ليس مقصده الأكل أو الشرب أو المنفعة المباشرة وإنما الإكتشاف للحياة عن طريق الوجدان. 
الوجدان يبقي نائم حتى يهزه الجمال والتناسق في الخلق وهذا يفتح الباب أمام الإنسان للبحث في قوانين الوجود، ويمكن للأم أن تقدم لطفلها ما ينمي وجدانه من خلال عمل فني جميل، المدرسة كذلك يمكنها تنمية وجدان تلاميذها من خلال تزيين الجدران بلوحات جميلة، الدولة عندما تزين ميادينها وحدائقها بروائع فن النحت إنما تدفع بعيون شعبها لأن تتصل دوماً بالجمال مما يجعل المواطنين يحمون بلادهم من التخريب، والدول الغربية الراقية يغذي قادتها شعوبهم وجدانياً من خلال الآثار الفنية الضخمة والجميلة في كل مكان حتى محطات القطار، مما يدفع بتلك الشعوب للحرص 
على نظافة شوارعها وميادينها العامة وعدم السماح لأحد بأن يخدش هذا الجمال. 

بقلم/  باسنت موسي